حفلة الشيوعيّين في باريس

31-كانون الثاني 1934

    كانت الساعة الثامنة ركبت المترو مع بعض أصدقائي التونسيين متّجهين إلى صالة "وكرام" المعروفة لدى الجميع في باريس. فلمّا وصلنا إلى الصالة الكبرى وجدناها غاصّة بالناس فنزلنا إلى الطابق السفلي، ولم يمض نصف ساعة على وصولنا حتّى غصّت الصالة الثانية على رحبها واتّساعها؛ وكانت هيئة أكثر الجماهير تدلّ على أنّهم من الطبقات العاملة، ورأيت بعض الشابّات اللطيفات والشبّان يطوفون على الجماهير يوزّعون بعض النشرات المكتوب عليها برنامج الحفلة، وأسماء الخطباء والخطيبات، فتحقّقت أنّهم يمثّلون الطبقات العاملة والشيوعيّة، فعجبت لأنّني لم أكن أعلم أنّ هذا الاجتماع سيكون محور خطاباتها والتحريض على اعتناق مبادئها ومناهضة أعدائها، وسررت لأنّني وجدت في محيط جديد لم أعرف مثله قطّ في حياتي.

   ففي هذه الجلسة سمعت بعض الجيران ينادونني كأنّهم عدّْوني شيوعيًّا أنتمي إلى صفوفهم فاستعذبت مناداتهم ولكنّني لم انخدع بها.

   افتتح الحفلة أحد أساتذة السوربون، فنهض الخطباء والجموع ورفعوا أكفّهم مطويّة على محاذاة أكتافهم وأنشدوا النشيد الشيوعيّ العامّ، ثم ابتدأت الخطب وكان من بين الخطباء: امرأتان والنائب الشيوعيّ كاشان وغيرهم من ممثلي الطبقات الباريسيّة المختلفة.

   وهنا أثار عجبي العاصفة الخطابيّة التي هبّت وحرّكت القلوب وأثارت الحمية والنخوة في الرؤوس، فاشترك في التصفيق الحادّ، الشيوعيّ والمتفرّج، وانساق الجميع لتيّار واحد، تيّار العاطفة المفلتة من قيود العقل. يتذكّر السامع في تلك الساعة ابن ساعدة وسحبان بن وائل وشيشرون ويتحقّق أنّ الفرنسيّ خطيب إذا قضت الحاجة، وهو مستعدّ لهذا الفنّ من فطرته.

   أكبرت مقدرة تلك الإمرأتين في الخطابة، فلم أر فرقًا بينهما وبين سائر الخطباء الذكور، وأدركت أنّ المرأة قادرة على إثارة عواطف الجماهير ودفعها إلى غمرات الحياة المختلفة أكثر من أخيها الرجل.

  مواضيع هؤلاء الخطباء واحدة:

   الدفاع عن مبادئ موسكو وشيوعيّي العالم، والمحافظة على حقوق العمّال والشباب ضدّ الرأسماليّين المستعمرين، والتحريض على الثورة لتوطيد السلام الإنسانيّ وبعث حياة جديدة لا سيطرة فيها لقويّ على ضعيف ولا لغنيّ على فقير.

   لست لأدافع عن المبادئ الشيوعيّة أو أهاجمها الآن، إنّما الذي يهمّني ويأخذ مجمع قلبي هو الروح الحرّة والصراحة في المبادئ والأفكار في هذا الشعب الفرنسيّ.

  فقد أعلن الخطباء في خطبهم حربًا على حكومة فرنسا وخاصّة رئيس وزرائها "شوشتان" الذي اتُهم مع "شياب" (مدير بوليس باريس) في قضيّة "ستافيكي" التي اشتهرت في "فرنسا".

  لو تكلّم خطباؤنا بمثل هذه اللهجة في قلب بلادهم لكانوا ألقوا في السجون ونفوا بلا شفقة ولا رحمة.

   انتهت الحفلة وخرجت الجماهير المعدودة بالألوف وهي تهتف بحياة الشيوعيّين وسيادة الإنسانيّة في الوطن الأكبر الذي هو العالم بأجمعه.

   كان في الأسواق ما يزيد على ألف جنديّ وفارس فرّقوا الجماهير خوفًا من المظاهرات.

                                يوسف س. نويهض